عشرون عاما على الشهادة للشيخ عبد الله عزام
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد:
ففي ليلة الخامس من ذي الحجة وفي تلك الخيمة المتواضعة على ضفاف نهر سرخاب من ولاية لوكر ، حيث الماء كاللجين ، وعلى شاطيء الوادي بساتين التوت والمشمش تحيل المكان إلى قطعة ساحرة من الجمال الأخاذ والروعة الباهرة التي تأخذ بالألباب.
في هذه الليلة وبعد يوم حافل بقصف الطائرات الذي استمر من بعد صلاة الفجر حتى المساء جرى ذكر الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى- فتنبهت أننا في شهر أغسطس ، الشهر الذي استشهد فيه وأنه قد مضى عشرون عاما على شهادته ، فكان لا بد من الكتابة عنه ولو شذرات وأسطرا وذلك رمزا للوفاء وعنوانا للمودة والإخاء.
لقد بدأت أقارن بين تلك الأيام التي كان يكتب فيها سيد من وراء القضبان للجيل ، حيث كتب الله لي أن أعيش تلك الأيام التي أرخى الليل فيها سدوله على المنطقة وادلهم ظلامها ، وضاقت الأرض بما رحبت على الدعاة ، وخلا الجو للشيطان الرجيم يذرع الأرض شرقا وغربا .
أذكر تلك الأيام -لا أعادها الله علينا- ولا أذكر أني رأيت فيها فتاة واحدة من المتعلمات محجبة في بلدي ، وعندما كنا نرى فتاة تلبس جوارب تحت لباس المدرسة الذي يكاد يصل ركبتها نعجب بأخلاقها ونتحدث بآدابها.
كان في جامعة القاهرة التي تعد فيها الفتيات حوالي خمسين ألفا ، فتاة واحدة ملتزمة اللباس الشرعي وهي ابنة شقيقة سيد قطب - رحمه الله تعالى ـ.
أذكر أن مظاهرة خرجت في عام 1967م قبل الإحتلال اليهودي بثلاثة أشهر في المدينة التي أنا منها – جنين بفلسطين- تعبر عن سخطها على اليهود وتندد بالظالمين وتهتف بحب عبد الناصر ، فلم تجد تعبيرا صادقا عن سخطها أوضح ولا أقوى من أن تدخل دار الدعوة الإسلامية وتمزق المصاحف والتفاسير وتلقيها في شوارع المدينة!! ولا زال منظر أوراق المصاحف يهز الأوصال بتذكرها ، ولم يفسح الأجل للأستاذ سيد أن يرى الثمار المباركة التى أثمرها الله عز وجل من غراس قلمه المبارك , لم ير الصحوة الإسلامية ولا رجوع الجيل إلى الله ولكنها الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وددت يوم سمعت الحكم عليه بالإعدام أن أفتديه بنفسي وأمي وأبي ، وأذكر أني كتبت برقية لعبد الناصر أقول فيها: (الدعوة لن تموت والشهداء خالدون والتاريخ لا يرحم).
كنت أظن أن شهادته ستحدث فراغا في المنطقة ولكن ؛ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، ما كنت أظن أنه سيحصل هذا الدوي الهائل بشهادته ، وأن أفكاره ستعم المنطقة ، بل العالم الإسلامي كله فتحيا بها الأجيال..
ميزات سيد قطب :
لقد تميزت كتابات سيد قطب بمميزات كثيرة أفردتها من بين الكتابات المعاصرة وجعلتها فذة مشرقة ، وعلى رأس هذه المميزات التي: ميزته وميزت كتاباته:
1- نفاذ البصيرة وعمق النظر:
وذلك راجع أولا وقبل كل شئ إلى الإخلاص الذي تلمحه من خلال عباراته -كما نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا - ، والإخلاص يورث الفراسة [ كما جاء في الأثر ] :
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله .(1)
- 1- أخرجه البخاري في التاريخ و الترمذي عن أبي سعيد الخدري وهو في ضعيف الجامع الصغير برقم (721).
وأما عمق النظر فهذا يدركه كل من قرأ (المستقبل لهذا الدين) الذي صدر في الوقت الذي خيم فيه الظلام على المنطقة ، ولم تعد ترى فيها بصيصا من نور في هذا الليل البهيم ، وكثيرا ما كان يردد: ( ستهب في المرحلة القادمة على المنطقة رياح من الإسلام الأمريكي!? ) وقد كان!.
ولقد رأيت هذه الملامح على تفكير أخيه الأستاذ محمد قطب - حفظه الله- ، فكثيرا ما كان يحدث بأمور يتوقعها كنت أحسبها أيامها ضربا من الخيال أو إغراقا في الأوهام ، ثم رأيتها واضحة جلية في واقع الأرض..
2- سعة الأفق:
وهذا راجع إلى عاملين:
أولهما: الإطلاع على المخطط العالمي لضرب الإسلام.
ثانيهما: سعة ثقافته واطلاعه على الثقافة الإنسانية.
أما اطلاعه على المخطط العالمي لضرب الإسلام ممثلا بالحركة الإسلامية ، فلقد كان مبعوثا لوزارة المعارف المصرية إلى أمريكا في الوقت الذي لم يكن يعرف فيه حقيقة الإسلام بعد ، ولم يلتزم بعد بتعاليمه ، فيقول عن نفسه وهو في طريقه إلى أمريكا: (كنت أحد ستة نفر من المنتسبين للإسلام في باخرة تشق عباب الأطلسي ميممة شطر أمريكا) وفي أمريكا جرت له حادثتان كانتا سببا لدخوله في الحركة الإسلامية (كما حدثني بذلك أحد أرحامه):
أولهما: - كما يحدث هو- كنت في 13 شباط 1949م مستلقيا على أحد أسرة مستشفى في أمريكا فرأيت رقصا صاخبا وموسيقى وأنوارا ورأيت الإبتسامات تعلو الوجوه ، والفرح يغمر المستشفى فقلت: أي عيد هذا الذي تحتفلون به قالوا: اليوم قتل عدو النصرانية في الشرق ، اليوم قتل حسن البنا. قال: فهزتني هذه الكلمة من أعماقي.
ثانيهما: إن السفارات العالمية كانت تتسابق على اصطياد الشباب المسلم ، وسيد كصحفي معروف كان أحد هؤلاء الذين تدور حولهم العيون ليكون صيدا سهلا وفريسة مستساغة لصائده ، فدعاه مدير الإستخبارات في السفارة البريطانية في واشنطن إلى بيته. قال سيد: فعندما دخلت بيته كم أذهلني مفاجأة أني رأيت عنده كتاب (العدالة الاجتماعية) ، ولم يكن قد وصل أمريكا إلا نسخة واحدة أرسلها لي أخي محمد ، إذ أنه قد أشرف على طباعة الكتاب في غيابي ، وبدأ الحديث عن الشرق ومصر وتوقعات المراقبين بأن الوريث للحكم الملكي القائم هو أحد اثنين: إما الشيوعيون وإما الإخوان المسلمون ، والمرجح أنهم الإخوان ، ثم بدأ يفتح لي ملفا خاصا بالإخوان فيه من التفصيلات والجزئيات مما يدق على أبناء مصر أنفسهم حتى المختصين ، ثم قال: إذا وصلت جماعة الإخوان إلى الحكم فإنها ستحرم مصر من ثمار الحضارة الغربية ، ثم قال أخيرا : نحن نهيب بأمثالك من المثقفين أن يحولوا بين الإخوان وبين الوصول إلى الحكم ، لأن وصولهم هو نهاية مصر المؤسفة الأليمة!? قال سيد: وفي بيت مدير الإستخبارات البريطاني في واشنطن قررت أن أدخل جماعة الإخوان فور عودتي ، لأنه لا يمكن لجماعة تكيد لها الدوائر العالمية هذا الكيد أو تخطط ضدها هذا التخطيط إلا أن تكون الجماعة على الحق.
لقد دخل سيد جماعة الإخوان ، وقد عرف بنفسه الكيد الهائل ضد الإسلام والكراهية العميقة التي لايمكن للغرب أن يخفيها.
وأما سعة ثقافته: فيقول عن نفسه (1): 1- معالم في الطريق للشهيد ص( 143 ). (إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة ، كان عمله الأول فيها هو القراءة والإطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية... ما هو من تخصصه وما هو من هواياته.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره: فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلا ضئيلا إلى جانب ذلك الرصيد الضخم -وما كان يمكن أن يكون إلا كذلك- وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره ، فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها.. وعلى انحرافها وضآلتها وقزامتها وعلى جعجعتها وانتفاشها وعلم غرورها وادعاءها وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي).
3- الجــديـــة:
لقد كان سيد جادا في جاهليته وإسلامه فلم يكن يهادن ولا يداهن ، لقد كان واضحا كالشمس في رابعة النهار مستقيما كحد السيف ، ومن هنا أخرج مجلة كان صاحب الإمتياز فيها الميناوي ، فخرج منها ثلاثة أعداد كلها صودرت ثم أغلقت ، ولقد أرسل الملك من يغتاله ولكن الله نجاه من اليد الأثيمة..
لقد كان دائما يردد: (أنا لا أستطيع أن أعيش بنصف قلب نصفه لله ونصفه للدنيا) (1). 1- نقلا عن الثقات.
وكان يقول: إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة لترفض أن تكتب حرفا واحدا تقر به حكم طاغية ، حدثت شقيقته حميدة إثر خروجها من السجن - وأنا أسمع- قالت: جاءني مدير السجن الحربي حمزة البسيوني يوم 28 أغسطس 1966م وأطلعني على قرار الإعدام الموقع من عبد الناصر بإعدام سيد قطب ثم قال: إن إعدام الأستاذ سيد خسارة للعالم الإسلامي والعالم أجمع وأمامنا فرصة أخيرة لإنقاذ الأستاذ من حبل المشنقة ، وهي أن يعتذر على التلفاز فيخفف عنه حكم الإعدام ثم يخرج بعد ستة أشهر من السجن بعفو صحي ، هيا فاذهبي إليه لعلنا ننقذه.
قالت حميدة: فتوجهت إليه لأبلغه الخبر فقلت له: إنهم يقولون إن اعتذرت فسيعفون عنك.
فربت سيد على كتفي قائلا : عن أي شئ أعتذر يا حميدة!! عن العمل مع الله?! والله لو عملت مع أي جهة غير الله لاعتذرت ، ولكني لن أعتذر عن العمل مع الله.
ثم قال: إطمئني يا حميدة إن كان العمر قد انتهى فسينفذ حكم الإعدام ، وإن لم يكن العمر قد انتهى فلن ينفذ حكم الإعدام ولن يغني الإعتذار شيئا في تقديم الأجل أو تأخيره.
أية طمأنينة ، وأية ثقة هذه التي يتمتع بها هذا القلب الكبير.. أية راحة وأية سكينة هذه التي يسكبها الله على الفؤاد وعلى النفس المؤمنة. ، ومن علامة جديته: أنه استقال من وزارة المعارف في اللحظة التي قرر فيها دخول الحركة الإسلامية.
4- الإحتياط والورع والهيبة أمام النصوص القرآنية:
ويبدو هذا من خلال تفسيره لكتاب الله فيقول -في ظلال القرآن- عند آية:
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)
(البقرة: 238 )
( أشهد أني وقفت أمام هذه الآية ستة أشهر لا أنتقل إلى ما بعدها ، كيف جاءت آية الصلاة بين آيات الطلاق ، وكنت آمل أن يفتح الله علي في هذه الفترة ولكن لم يفتح الله علي ، فإن فتح الله على أحد من القراء فليتفضل إلي مشكورا ).
ويقول في مقدمة سورة الرعد (1): 1- تفسير الظلال (4/2038 ). (كثيرا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر المتحرج أن أشوبها بأسلوبي البشري الفاني ، ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح.
ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن ).
5- التركيز على العقيدة وشرح لا إله إلا الله :
لقد هال الأستاذ سيد قطب وقوف الجموع الهائلة من المسلمين واجمة ازاء تصفية الحركة الإسلامية جسديا سنة 1954م ، فلقد كانت هذه الجموع تسد الطرقات على أبواب دار الإخوان في (الحلمية) تنتظر خطاب الأستاذ البنا مساء كل ثلاثاء وتنتظره حتى الثانية عشرة ليلا وهي تكبر وتهتف ، ما بالها الآن بكماء عمياء صماء? بل إن قسما ليس بالقليل من هؤلاء تبرع بإيذاء الإخوان في داخل السجون بالتجسس عليهم ونقل أخبارهم.
لقد وقف طويلا أمام هذه الظاهرة وأخيرا وضع إصبعه على موطن الداء وهو أن هذه الجموع لم تفهم (لا إله إلا الله).
حدثني أحد الإخوة قال: إن مراسم الإعدام تقضي أن يكون أحد العلماء حاضرا تنفيذ الإعدام ليلقن المحكوم عليه الشهادتين! فعندما كان سيد يمشي خطاه الأخيرة نحو حبل المشنقة اقترب منه الشيخ قائلا : (قل لا إله إلا الله) فقال سيد: حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله ، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله.
وبعد هذا كله (بنو أسد تعزرني على الإسلام) كلمة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قالها عندما جاء وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعدا حتى قالوا: إنه لا يحسن الصلاة! يروي البخاري عن قيس قال: سمعت سعدا رضي الله عنه يقول: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله ، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا ورق الشجر ، حتى أن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط ، ثم أصبحت بنو أسد (تعزرني على الإسلام) لقد خبت إذا وضل عملي).
وما أشبه اليوم بالبارحة ، إن بعض الناس بدأوا يشككون في عقيدة سيد قطب ، حتى إنه ترامى إلى مسامعي أن باحثا يؤلف كتابا سماه (تنقية الظلال من الضلال!) ولقد بالغ بعض القوم حتى قالوا أن سيدا يقول (بوحدة الوجود) وكأنهم لم يقرأوا مئات المرات في الظلال التفريق بين الخالق والمخلوق .
والذين يتابعون تغير المجتمعات وطبيعة التفكير لدى الجيل المسلم يدركون أكثر من غيرهم البصمات الواضحة التي تركتها كتابة سيد قطب وقلمه المبارك في تفكيرهم.
والحق أنني ما تأثرت بكاتب كتب في الفكر الإسلامي أكثر مما تأثرت بسيد قطب ، وإني لأشعر بفضل الله العظيم علي إذ شرح صدري وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب ، فقد وجهني سيد قطب فكريا وابن تيمية عقديا وابن القيم روحيا والنووي فقهيا ، فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثرا عميقا .
ولقد كان لاستشهاد سيد قطب أثر في إيقاظ العالم الإسلامي أكثر من حياته ، ففي السنة التي استشهد فيها طبع الظلال سبع طبعات بينما لم تتم الطبعة الثانية أثناء حياته ، ولقد صدق عندما قال: (إن كلماتنا ستبقى عرائس من الشموع حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء).
ولقد مضى سيد قطب إلى ربه رافع الرأس ناصع الجبين عالي الهامة ، وترك التراث الضخم من الفكر الإسلامي الذي تحيا به الأجيال ، بعد أن وضح معان غابت عن الأذهان طويلا ، وضح معاني ومصطلحات الطاغوت ، الجاهلية ، الحاكمية ، العبودية ، الألوهية ، ووضح بوقفته المشرفة معاني البراء والولاء ، والتوحيد والتوكل على الله والخشية منه والإلتجاء إليه.
والذين دخلوا أفغانستان يدركون الأثر العميق لأفكار سيد في الجهاد الإسلامي وفي الجيل كله فوق الأرض كلها ، إن بعضهم لا يطلب منك لباسا وإن كان عاريا ولا طعاما وإن كان جائعا ولا سلاحا وإن كان أعزلا ولكنه يطلب منك كتب سيد قطب.
وكم هزني أن أسمع أن هنالك قواعد جهادية في أفغانستان وعمليات حربية يطلق عليها اسم سيد قطب.
ومن جميل الموافقات العجيبة أن أستاذنا الكبير في الجهاد في فلسطين (صلاح حسن) كان يعد لعملية في فلسطين يسميها عملية (سيد قطب) ولشدة ما كانت الدهشة أن صلاح حسن قد استشهد في ليلة 29 أغسطس نفس الليلة التي أعدم فيها سيد قطب.
رحم الله سيد قطب.. ونرجو الله أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك